الأربعاء، 28 مارس 2012
5:43 ص

الشريعة الإسلامية



تعريفها
في اللغة: لها أحد معنيين: أحدهما: الطريقة المستقيمة، ومنه قوله تعالى: )ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ( (الجاثية 18) والثاني: مورد الماء الجاري الذي يقصد للشرب، ومنه قول العرب: شرعت الإبل: إذا وردت شريعة الماء.
والشريعة في الاصطلاح العام ـ كما جاء في كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي ـ: الشريعة: هي ما شرع الله تعالى لعباده من الأحكام التي جاء بها نبي من الأنبياء (صلى الله عليهم وعلى نبينا وسلم) المتعلقة بكيفية عمل، وتسمى فرعية وعملية، ودوِّن لها علم الفقه، أو بكيفية الاعتقاد، وتسمى أصلية واعتقادية، ودوِّن لها علم الكلام.
وشاع إطلاق لفظ الشريعة لدى الفقهاء على المعنى الأول وهو الأحكام التي سنّها الله لعباده لتحقيق سعادتهم في الدنيا والآخرة، وسميت هذه الأحكام شريعة، لأنها مستقيمة، محكمة الوضع، لا ينحرف نظامها. وصار المراد في المفهوم الشائع أن الشريعة هي: الأحكام العملية أو النظم التي شرعها الله تعالى لعباده في تبيان علاقة الإنسان بربه، وعلاقته بأخيه، وعلاقته بالكون والحياة.
ومن الشـريعة اشتق فعل «شرع» أي أنشأ الشـريعة وسَـنَّ قواعدها، كما قال الله تعالى: )شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ..( (الشورى 13) وقال أيضاً: )أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ( (الشورى 21) ولكن المشرع الحقيقي هو الله تعالى، ويطلق على غيره مجازاً. والشرائع هي: الأحكام العملية التي تختلف باختلاف الرسل، وينسخ لاحِقُها سابقَهَا أو يكملها أو يعدّلها.
وأساس الشريعة الإلهية الوحي الإلهي، وتتميز الشريعة الخاتمة بالسمو والكمال والشمول، ومراعاة  المصالح العامة أولاً، ثم المصالح الخاصة، وتقدم درء المفاسد على جلب المصالح، وتتلازم فيها العقيدة والعبادة، والمعاملة لتكوين الإنسـان الكريم والمجتمع الفاضل، وتشمل الأحكام المدنية والجزائية والمرافعات أو الإجراءات، والأحكام الدستورية، والدولية، والاقتصادية، والاجتماعية ومنها أحكام الأسرة. وبرهان ذلك قوله تعالى: )الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا( (المائدة 3).
نوعا التشريع والفرق بينهما
التشريع نوعان: سماوي ووضعي، والتشريع السماوي هو: مجموعة الأوامر والنواهي، والإرشادات، والقواعد التي يشرعها الله للأمة على يد رسول منها يدعوها إلى العمل بها، ويبلّغها ما أعد الله من الجزاء لمن أطاع، والعذاب لمن عصى.
والتشريع الوضعي هو: ما يختاره صاحب السلطان في الجماعة من النظم التي يرتضونها مرجعاً لهم ويتعاملون بمقتضاها. والفرق بينهما من عدة وجوه:
ـ الأول: أن التشريع السماوي متكامل وشامل ينظم علاقات الإنسان الثلاث: علاقته بربه على أكمل وجه من الاعتقاد الصحيح والعبادة الحقة والامتثال والطاعة، وعلاقته بنفسه بتربية الوجدان والأخلاق والسلوك ويقظة الضمير والشعور بالواجب، وعلاقته بأخيه بتنظيم المعاملات وبنائها على أساس من الثقة والسلامة وصون الحقوق، والتزام الواجبات.
ـ الثاني: الشريعة السماوية إيجابية وسلبية حيث إنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، أي ترعى الفضيلة وتحارب الرذيلة، وتجلب المصالح وتدرأ المفاسد.
ـ الثالث: الشريعة السماوية دين يتعبد به: فامتثالها طاعة يثاب لأجلها، ومخالفتها معصية يعاقب عليها، وإذا كان الجزاء في القوانين الوضعية مادياً دنيوياً فقط فالأصل في الجزاء في الشريعة الإسلامية، ثواباً وعقاباً، أنه أخروي لكنه قد يقع في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معاً.
ـ الرابع: الشريعة السماوية تحاسب على بواعث الأعمال الداخلية وعلى الأعمال التحضيرية والنتائج الخارجية، والقوانين الوضعية لا تتعرض إلا لبعض الأعمال الخارجية التي تمس الغير، وتعنى أساساً باستقرار المعاملات، سواء كانت متفقة مع الأخلاق أم لا، وإن كانت في الجملة  تنشد رعاية الأخلاق.
ـ الخامس: الشريعة السماوية تقوم على أساس من العدل المطلق وتحقيق المصلحة المجردة أو الموضوعية لأنها من وضع الله تعالى، أما النظام الوضعي فيتأثر بتكوين الواضع وميوله وأهوائه، وبالعوامل الاجتماعية كالعرف والعادة، والبيئة، وبالعوامل الطبيعية كالزمان والمكان والجو.
ـ السادس: تلتزم الشريعة السماوية بإحلال الطيبات والمنافع، وتحريم الخبائث والمضار أو المؤذيات، أما القوانين الوضعية فتجيز أحياناً ما هو ضار كالاتجار في الخمور، وفتح دور اللهو، والتعامل بالربا، لتحقيق المكاسب المادية، وقد تحظر المباح أو الواجب في التشريع السماوي، كحظر الاجتماعات أحياناً، وتقييد النشاط الاقتصادي ببعض القيود، وتعطيل الحدود الشرعية زاعمة أنها تتنافى مع المدنية والرحمة وحقوق الإنسان.
خصائص الشريعة الإسلامية
قامت الشريعة الإسلامية على أسس ثلاثة هي: عدم الحرج، وقلة التكاليف، والتدرج في التشريع، فليس في تكاليفها  شيء من الحرج أو المشقة غير المعتادة أو الزائدة عن قدرة التحمل، وإنما هي شريعة اليسر والسماحة، كما قال تعالى: )يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ( (البقرة 185) وقال أيضاً: )وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج( (الحج 78).
وتميزت تكاليفها بالوسطية والاعتدال، دون إرهاق بالأوامر والنواهي، ولا تشدُّد أو كثرة في الواجبات، وتحظر المحرَّمات، لقوله تعالى: )وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا( (البقرة 143). وما حرَّمت الشريعة شيئاً لضرره وأذاه، أو لإخلاله بمبدأ الحق والعدالة والحرية والمساواة، إلا وفتحت له منفذاً سهلاً من الحلال يمكن تعرّفه بالاجتهاد، كما هو الشأن الآن في تغطية معاملات المصارف الإسلامية.
وتدرجت الشريعة في بيان التكاليف، أخذاً بقواعد التربية الناجعة، لئلا تثقل كواهل المكلفين وتنفر النفوس، فنزل القرآن منجماً (مقسطاً) بحسب وقوع الحوادث والمناسبات، ولإعداد النفوس واستعداد البشر لتقبل اللاحق، وتهيئة السابق من الأحكام لما يتلوه، ولتكون النفس أقرب إلى الطاعة والانقياد، فجاء تحريم الخمر والربا على أربع مراحل، وتقرير عقاب الزناة على مرحلتين: الأولى الحبس في البيوت للنساء، والتعيير والإيذاء بالقول للرجال، وشرعت الصلاة أولاً ركعتين بالغداة، وركعتين بالعشي، رأفة بالناس ورحمة بهم، لأنهم كانوا حديثي عهد بالإسلام، ثم شرعت الصلوات الخمس ليلة الإسراء والمعراج.
مصادر الشريعة:
الشريعة الإسلامية خاتمة الشرائع، وهي التي صححت مسار التشريع الإلهي فأقرت الحق وأبطلت الباطل، فصارت واجبة التطبيق على المسلمين وغيرهم بعد إيمانهم بها لقوله تعالى: )وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ( (المائدة 49).
ولهذه الشريعة مصادر أصلية، ومصادر تبعية أو ثانوية. والمصادر الأصلية أربعة: القرآن، والسنة، والإجماع، والقياس.
أما القرآن الكريم[ر]: فهو: المصدر الأصلي الأول، عمدة الشريعة وأساس الدين، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، وكتاب الكون، والشامل لأصول التشريع وجملته بتقرير المبادئ العامة، والقواعد الكلية، وأسس العقيدة، ونظام الحياة، وتبيان قواعد الأخلاق، قال الله تعالى عنه: )وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً( (النحل 8)، )مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ( (الأنعام 38)، )وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ( (المائدة 48) وبيان القرآن إما إجمالي وإما تفصيلي.
وتعريفه باعتباره دليل الحكم الشرعي هو: كلام الله تعالى، المنـزَّل على رسوله محمد، باللسان العربي، المعجز ولو بأقصر سورة منه، المكتوب في المصاحف، المنقول بالتواتر (النقل الجماعي) المتعبَّد بتلاوته (في الصلاة وغيرها) المبدوء بسورة الفاتحة، المختوم بسورة الناس.
وأما السنة: في اللغة فهي السيرة والطريقة المعتادة، وهي المصدر الثاني للتشريع الشامل لأقوال النبيr وأفعاله وتقريراته وصفاته. وهي مفتاح القرآن، والنبراس الذي يهتدى به إلى كشف حقائقه ومعرفة دقائقه، وتفصيل أحكامه المجملة، وأنواعها ثلاثة كما جاء في التعريف:
1ـ السنة القولية: وهي الأحاديث التي قالها رسول اللهr في مختلف الأغراض والمناسبات، مثل حديث «إنما الأعمال بالنيات»، «لا ضرر ولا ضرار»، «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».
2ـ السنة الفعلية: وهي الأعمال التي قام بها الرسول مثل أداء الصلوات الخمس، وشعائر الحج، والقضاء بشاهد واحد ويمين المدّعي.
3 ـ السنة التقريرية: وهي أن يسكت النبيr عن إنكار قول أو فعل صدر أمامه أو في عصره وعلم به، وذلك إما بموافقته أو استبشاره أو استحسانه، وإما بتقريره وعدم إنكاره.
وأما الإجماع[ر]: فهو في اللغة: العزم على الشيء والتصميم عليه، أو الاتفاق، وعند علماء الأصول: اتفاق المجتهدين من أمة محمدr بعد وفاته في عصر من العصور على حكم شرعي. وقد وقع فعلاً في عصر الصحابة، وحجته قطعية. ودليل حجيته من الكتاب قوله تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ( (النساء 59) وأولو الأمر في العلم والاجتهاد والفتوى هم: المجتهدون، لأن ابن عباس فسر أولي الأمر بالعلماء. ومن السنة في الحديث متواتر المعنى: «لا تجتمع أمتي على ضلالة» أو «على الخطأ» وحديث: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله» (البخاري ومسلم).
وأما القياس[ر]: في اللغة فهو التقدير «معرفة النسبة بين شيئين» أو مقارنة أحد الشيئين بالآخر، وفي اصطلاح الأصوليين: إلحاق أمر غير منصوص على حكمه بأمر منصوص على حكمه، لاشتراكهما في علة الحكم. مثل قياس الوصية على الميراث حالة القتل، فالحديث الذي رواه النسائي والدار قطني: «ليس للقاتل من الميراث شيء» يدل على أن الوصية مثل الإرث، لوجود العلة المشتركة وهي استعجال الشيء قبل أوانه فيعاقب بحرمانه، فيُحرم الموصى له القاتل من الوصية، كما يُحرم الوارث القاتل من الإرث.
والمصادر التبعية أو الثانوية كثيرة أهمها سبعة وهي:
ـ الاستحسان[ر]: وهو أحد أمرين: ترجيح قياس خفي على قياس جلي بناء على دليل، أو استثناء مسألة جزئية من أصل كلي أو قاعدة عامة، بناء على دليل خاص يقتضي ذلك.
مثال الأول: الحكم في مسألة سؤر (الباقي من الماء في الإناء) سباع الطير كالصقر والنسر والغراب قياساً على سؤر سباع البهائم كالفهد والذئب والنمر، فمقتضى القياس الجلي هو: الحكم بالنجاسة، لاختلاط الماء باللعاب المتولد من لحم نجس، ومقتضى الاستحسان طهارته قياساً على سؤر الإنسان، لأن كلاً منهما غير مأكول اللحم، ويقدم هذا الاستحسان لضعف تأثير القياس، وهو مخالطة اللعاب للماء في سؤر سباع البهائم، لأن سباع الطير تشرب بمناقيرها، والمنقار عظم طاهر، لأنه جاف لا رطوبة فيه، فيكون سؤره طاهراً كسؤر الآدمي، لانعدام علة النجاسة، وهي الرطوبة النجسة في أداة الشرب.
ومثال الثاني: مشروعية القرض، فإنه ربا في الأصل، لأنه مبادلة درهم بدرهم إلى أجل، ولكن أبيحَ استثناءً من هذا الأصل لما فيه من الإرفاق والعون والتوسعة على المحتاجين.
ـ المصالح المرسلة[ر]: وهي الأوصاف التي تلائم تصرفات المشرع ومقاصده، ولكن لم يشهد لها دليل معين من الشرع بالاعتبار أو الإلغاء، ويحصل من ربط الحكم بها جلب مصلحة أو دفع مفسدة عن الناس. أي لا تنطبق قواعد القياس الضيقة على حكم نص في مسألة معينة، وإنما يعمل بها لاتفاقها مع مجموعة المصالح المعتبرة في الشرع بنحو عام، وهي مقاصد الشريعة العامة من الحفاظ على الدين والنفس والعقل والعرض أو النسب والمال، كاتفاق الصحابة على تضمين الصناع أو العمال المشتركين، مع أنهم في الأصل أمناء على ما في أيديهم من أموال، منعاً لتهاونهم، مع حاجة الناس المتكررة إليهم.
ـ العرف[ر]: هو ما اعتاده الناس وساروا عليه من كل فعل شاع بينهم، أو لفظ تعارفوا إطلاقه على معنى خاص لا تألفه اللغة، ولا يتبادر غيره عند سماعه. يؤخذ به إذا لم يصادم نصّاً شرعيّاً، وكان عرفاً عاماً، وهو العرف الصحيح: الذي تعارفه الناس دون أن يحرم حلالاً أو يحل حراماً، كتعارف الناس قسمة المهر إلى معجل ومؤجل، وتقديم عربون في عقدالاستصناع ومشروعيته للحاجة إليه مع أنه بيع لمعدوم. فيقال: «العادة محكّمة» و«تتغير الأحكام بتغير الأزمان». أي الأحكام المصلحية أو القياسية لا المنصوص عليها.
ـ شَرْعُ من قبلنا: أي الأحكام المقررة في الشرائع السابقة إذا صحت نسبتها، من طريق مصادرنا المعتبرة، وهو دليل معتبر عند جمهور العلماء غير الشافعية، لأنه شرع أنزله الله تعالى، ولم نجد في شرعنا ما يدل على نسخه، لقوله تعالى:)أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ( (الأنعام90) كالحكم بمشروعية الجَعَالة (الوعد بجائزة) عملاً بما جاء في قصة يوسف:)وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ( (يوسف 72) وقسمة المال المشترك بطريق المهايأة عملاً بالثابت في قصة ناقة صالح: )وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ( (القمر 28).
ـ مذهب الصحابي: وهو ما أفتى به بعض الصحابة الذين لازموا النبيr زمناً طويلاً فيما للرأي أو الاجتهاد فيه مجال. كإفتاء عثمان بن عفان بإرث المرأة المطلقة في مرض الموت إذا مات عنها في أثناء العدة، وكان قد طلّقها فراراً من إرثها، وهو طلاق الفرار.
ـ الاسـتصحاب[ر]: هو الحكم بثبوت أمر أو نفيه في الزمان الحاضر أو المسـتقبل، بناء على ثبوته أو عدمه في الزمان الماضي، لعدم قيام الدليل على تغييره. يعمل به إذا لم يوجد دليل آخر، كالحكم ببقاء الملكية عند صاحبها حتى يثبت نقلها بدليل، والأصل براءة الذمة عن الواجبات. وهو حجة مطلقاً عند الشافعية والحنابلة، وحجة للنفي لا للإثبات عند الحنفية والمالكية، أي يحكم ببقاء حكم الشرع بشيء بناء على تحقق سببه، قالوا: الاستصحاب حجة لإبقاء ما كان على ما كان، لا لإثبات ما لم يكن، فاصطحاب الملكية الثابتة بعقد سابق ليس حجة لبقاء الملكية وإنما للرد على من يدعي زوال الملكية دون دليل.
ـ الذرائع: هي ما يتوصل بها إلى الشيء الممنوع المشتمل على مفسدة، أو إلى الشيء المشروع المشتمل على مصلحة، الأول يقال له: سد الذرائع[ر]، والثاني يقال له فتح الذرائع. وهي حجة مطلقاً عند المالكية والحنابلة خلافاً للشافعية والحنفية الذين قصروها على المنصوص عليه، فحكم الفريق الأول بتحريم وإبطال بيوع الآجال التي يقصد بها التوصل إلى الربا باتخاذ البيع جسراً إليه، عملاً بالباعث غير المشروع، واقتصر الفريق الثاني على القول بمشروعية ظاهر العقد، ولم يأخذوا بالباعث لإبطال العقد، وإنما المنع فقط بوجود شرط صريح في العقد، والجواز إذا كان العقد مستوفياً أركانه وشرائطه، تاركين أمر الحساب على النية الخبيثة إلى الله تعالى.
أوجه تطبيقها في الماضي والحاضر: طبقت الشريعة الإسلامية تطبيقاً كاملاً في عهد الخلافة الراشـدية التي شـملت خلافة عمر بن عبد العزيز، ثم بدأت في مجال النظام السياسي تتقلص، فكانت الخلافة شورى، ثم صارت ملكاً عضوضاً، تبرز فيها ظاهرة الاستبداد، وفي النظام المدني والجنائي والاقتصادي والاجتماعي ظلت الشريعة مطبقة غالباً في الخلافات الإسلامية المتتابعة: الأموية والعباسية والعثمانية إلى حد كبير. وحينما ألغيت الخلافة الإسلامية عام 1924م على يد مصطفى كمال أتاتورك، وظهرت الكيانات والدول الإقليمية في المشارق والمغارب، وابتليت بالاستعمار الذي زال مادياً لا ثقافياً، اتجهت هذه الدول إلى تطبيق القوانين الوضعية المستوردة من الغرب، مع تطعيمها بشيء من أحكام الشريعة أحياناً.
مكانتها في تشريعات الدول العربية والإسلامية: هذه الدول ذات اتجاهات ثلاثة:
1ـ دول تطبق مجموع الشريعة مدنياً وجزائياً واقتصادياً واجتماعياً في الجملة كالسعودية والسودان وباكستان، وإيران.
2ـ جميع الدول الإسلامية والعربية تقتصر في التطبيق على قانون الأحوال الشخصية المستمد من الفقه الإسلامي، بصفة سليمة لدى الغالبية، أو مشوهة كما في تونس ومصر في عهد السادات، على الرغم من النص الدستوري في أغلبها على أن الإسلام دين الدولة أو دين رئيسها كما في سورية، أو أن الشريعة الإسلامية أحياناً مصدر رئيسي للقانون كما في مصر.
3ـ أغلب الدول العربية والإسلامية تطبق النظام المدني والجنائي المستمد من القوانين الغربية لا سيما الفرنسية، مع تطعيمه في المجال المدني ببعض أحكام الشريعة، وتجعل مصر الشريعة في المرتبة الثالثة من مصادر القانون بعد التشريع والعرف، وسورية تقدم الشريعة على العرف. وبعض الدول كالأردن والإمارات والكويت والسودان جعلت جميع قانونها المدني مستمدّاً من الشريعة. وكذا الجنائي في السودان والإمارات، وتتجه الكويت هذا الاتجاه الذي لم يعلن رسمياً إلى الآن.
وهبة الزحيلي

0 التعليقات:

إرسال تعليق